السبت، 9 يناير 2021

المناخ والمشاهد الطبيعية في عصر ما قبل التاريخ

 منذ مليون سنة، حدثت تغيرات كبيرة في المناخ، وقد أدى تطور أبحاث علم المناخ إلى اكتشاف مميزات وخصائص وآليات مناخ العهد الجيولوجي القديم. وكان لهذا التطور أثرا مهما في حياة الإنسان.

 - نتج عن تتابع العصور الجليدية مناخا متميزا:

غلب على جزء كبير من عصر ما قبل التاريخ تعاقب العهود الجليدية التي شكلت مشاهد اليوم، مخلفة وراءها آثارا جيولوجية تشهد على وجودها. إذ نلاحظ على امتداد المساحات الشاسعة في كندا والبلاد الاسكندنافية أخاديدا محفورة على الصخر، يدل اتجاهها على خط جريان الركام الجليدي الذي كان يغطي هذه المناطق. وقد حفر ضغط هذه الكتلة الجليدية على الأرض وكذلك الحجارة التي جرفتها معها هذه الأخاديد على الصخر، وكان الضغط من القوة بحيث جعل الوديان الجليدية القديمة على شكل حوض. كما جرفت كتلا ضخمة من الحجارة لمسافة مئات الكيلومترات من مكانها الأصلي وتركتها في مكانها عند ذوبان الجليد، ودلت هذه الصخور الضخمة على وجود العصور الجليدية.

وفي عام 1837م، نشر السويسري لويس آغاسيز Louis Agassiz فرضية انتقال هذه الكتل بواسطة الجليد فأطاح بالفكرة السائدة بأن هذه الحجارة كانت شاهدة على "الطوفان"...وقد كلفه ذلك 25 عاما قبل أن تحظى نظريته بالإجماع.

وحتى منتصف هذا القرن، حدد علماء الجيولوجيا أربعة عصور جليدية. غير أن كل عصر جليدي جديد تسبب في جرف ركام ثلجي أزال أغلب المؤشرات الجيولوجية للعصر الجليدي الذي سبقه...وسوف يمكننا دراسة تركيب الرواسب المتموضعة في أعماق المحيطات من التقدم في معرفتنا عن العصور الجليدية.

مع مرور الزمن، ترسبت البقايا المعلقة بمياه المحيطات في الأعماق البحرية وشكلت طبقات متعاقبة من الرسوبيات. وتم العثور فيها على العديد من هياكل لأحياء مجهرية كما في الصورة التالية:

ترسبات كلسية في أعماق المحيط تعود إلى العصر الجليدي
ترسبات كلسية في أعماق المحيط تعود إلى العصر الجليدي

تغير المناخ في المليون سنة الأخيرة بتتابع من التجلدات، كما تشهد بذلك المستحاثات الكلسية التي تم العثور عليها في قاع الترسبات، والتي يرسم تركيبها النظائري التغيرات في حجم الجليد المتراكم على القارات

وبالتنقيب في المحيطات على عمق بضع عشرات من الأمتار، تم أخذ عينات من طبقات الرسوبيات هذه، حيث ظهرت هياكل كائنات حية كانت قد عاشت منذ آلاف بل ملايين السنين. وكلما ازدادت هذه المستحاثات عمقا في الترسبات، كلما كانت أقدم، ودلت بالتالي على عصر مناخي أبعد. وتعتبر المركبات الكربونية التي تشكل هيكلها مفتاح معرفتنا بالعصور الجليدية، وبشكل خاص بسبب احتوائها على نظائر الأكسجين، الذي يتيح تحليلها تقدير التغييرات في حجم القبب الجليدية.
والحقيقة أنه توجد في الطبيعة عدة أنواع من ذرات الأكسجين، تدعى نظار الأكسجين. ويعتبر الأكسجين ذو الكتلة الذرية 16 الأكثر شيوعا، إلا أن الذرات ذات الكتلة الذرية 18 موجود أيضا، وهي نظير ثابت من الأكسجين حيث تضم نواته 2 نوترون إضافيين. غير أن نسبة ذرات الأكسجين 18 إلى ذرات الأكسجين 16 التي يحتويها كلس القوقعة المستحاثة تتغير تبعا للطبقة الرسوبية. ويستخدم علماء المناخ الجيولوجي القديم هذه التغيرات في العلاقة بين نظائر الأكسجين 18/الأكسجين 16 كواسم للعصور الجليدية. وعندما يتراكم الجليد على القارات فهو يخزن الماء ضعيف الكثافة بالأكسجين 18 بسبب التقطير الذي يتعرض له الماء أثناء دورته في الجو.
وبالمقابل، يكون المحيط مشبعا بالنظائر الثقيلة. مما يؤدي إلى زيادة نسبة نظائر الأكسجين الثقيلة في الهياكل الكلسية للكائنات الحية المجهرية التي عاشت في تلك العصور. وعلى النقيض من ذلك تتناقص هذه النسبة عند ذوبان الجليد.
أتاح تحليل النظائر للترسباتالبحرية توضيح تعاقب العصور الجليدية وذلك بنظم وسطى مرة كل 100000 سنة خلال المليون سنة الأخيرة.
ويظهر التحليل تغلب العصور الجليدية على عصور تراكم الجليد الضعيف، والعصور الجليدية الدورية التي نشهدها في يومنا هذا. كما تكشف بيانات الرسوبيات هذه عن مصادفة شبه كاملة بين تواتر العصور الجليدية والتغيرات البطيئة لحركة الأرض حول الشمس، التي أدت لظهور النظرية الفلكية للمناخ.
الفلك كمحرك للعصور الجليدية
قبل معرفة العمر الدقيق للعصور الجليدية المتعاقبة بفترة طويلة، طرحت النظرية الفلكية للمناخ في نهاية القرن الماضي. وقد قام بتطوير هذه النظرية العالم الرياضي الصربي ميلوتين ميلانكوفيتش Milutin Milankovich منذ عام  1924، حيث عرفت بنظرية ميلانكوفيتش، وتستند إلى حساب التغيرات عبر القرون لتعرض مناطق مختلفة من الأرض للشمس، والناجمة ليس عن تغير الإشعاع الصادر عن الشمس، بل عن تطور حركة الأرض حول الشمس.
خلال سنة ترسم حركة الأرض شكل قطع ناقص حول الشمس. ولو لم يوجد نجم آخر غير الشمس يمارس قوة جاذبية على الأرض، لبقيت هذه الحركة كما هي على مر الزمن. لكن القمر والكواكب الأخرى في النظام الشمسي تشوش حركة الأرض.
تتأثر كافة العايير المدارية التي تمتاز بها هذه الحركة.
التغيرات البطيئة لحركة الأرض حول الشمس هو محرك التجلدات

أ- تغيرات شكل المدار الأرضي خلال فترة 100.000 و400.000 سنة، تذبذبات محور دوران الأرض بين 22 و25 درجة خلال فترة 41000 سنة.  
ب- دوران محور الأرض من محور عمودي على مستوى دائرة البروج، مغيرا مسافة الأرض - الشمس خلال الفصول.
ج- منذ 11000 سنة كانت الأرض تمر أقرب من الشمس عند الانقلاب الصيفي الجنوبي بينما حاليا تمر الأرض أقرب في الانقلاب الشتوي الجنوبي.
   

    فشكل القطع الناقص أولا الذي يتميز بثابتة الانحراف عن المركز، يتغير من دائرة تامة إلى قطع ناقص قليل التسطح خلال فترة تمتد من 100.000 إلى 400.000 سنة. وثانيا: يتأرجح انحراف محور الأرض بالنسبة لمستوى الخط المداري (مستوى المدار الأرض) بين 22 درجة و 25 درجة بشكل دوري كل 41000 سنة. يعدل هذا التذبذت كمية التشمس التي تتلقاها الارتفاعات المختلفة حسب الفصول، وبشكل خاص مدة الليل القطبي في الارتفاعات الأكثر علوا.
الحركة الثالثة، هي محور دوراة الأرض التي تدور حول محور عمودي في المستوى المداري تحت تأثير جذب كل من الشمس والقمر. وينتقل موضع انقلاب الشمي الصيفي أو الشتوي واعتدال الربيع أو الخريف ببطء على طول المدار حسب أدوار هي 23000 و19000 سنة، ومنها تسمية مبادرة الاعتدالين الربيعي أو الخريفي. ولكن نظرا للشكل الإهليليجي للمدار الأرضي، فإن المسافة بين الأرض والشمس تتغير خلال السنة، وتتغير تبعا لذلك الطاقة الواردة، حيث تتناقص كمية الإشعاع الشمسي الذي تتعرض له الأرض عندما تزداد المسافة. وفي وقتنا الراهن، في النصف الشمالي من الأرض تكون المسافة في حدودها الدنيا شتاء وتبلغ ذروتها في الصيف. ويحدث عكس ذلك في النصف الجنوبي من الأرض. ونشهد اليوم اعتدالا في فصول الشتاء وبرودة في فصول الصيف في النصف الشمالي من الأرض، في حين تزداد التناقضات الفصلية في النصف الجنوبي من الأرض.
وعلى النقيض من ذلك، وقبل حوالي 10000 سنة تقريبا، مرت الأرض من النقطة الأقرب للشمس في المنقلب الصيفي في نصف الأرض الشمالي وليس في المنقلب الشتوي كما هو الحال في أيامنا هذه. وبالتالي فإن نصف الكرة الشمالي يتلقى طاقة شمسية أكبر صيفا وأقل شتاء.
تعدل هذه التغيرات في حركة الأرض حول الشمس بشكل طفيف كمية الطاقة الشمسية التي تتلقاها الأرض في كل فصل. وحسب مليوتين ميلانكوفيتش، عندما يتناقص التشمس خلال الصيف على المرتفعات في نصف الكرة الشمالي، لا تذوب الثلوج بشكل كامل في الصيف وتبدأ بالتراكم، أضف لذلك أن الثلج يعكس بقوة أشعة الشمس مما يؤدي إلى زيادة البرودة ويسمح بانطلاق العصور الجليدية.
وهكذا دخلنا للعصر الجليدي الأخير منذ 110000 سنة تقريبا. وواجهت هذه النظرية جدلا واسعا لفترة طويلة من الزمن، ولم تتعزز إلا عام 1986 عندما أصبح ممكنا تأريخ التسجيلات المناخية بشكل كاف.
مشاهد الطبيعة في العصور الجليدية
أثناء العصر الجليدي تغير المناخ وشكل مشاهد الطبيعة ما قبل التاريخ. ففي أوروبا، تراجعت الغابات، وحلت السهوب محلها، فهيمنت عليها الأعشاب. ويبرهن على ذلك غبار الطلع الذي نشرته النباتات، والذي حفظته الرسوبيات على مدى آلاف السنين في أعماق البحيرات والمستنقعات، وهي تتيح تحديد أنواع النباتات التي كانت تنمو في محيطها دون أي التباس. إلا أن نمو النباتات يرتبط بشكل وثيق بالتوزع الفصلي لدرجات الحرارة والأمطار. وبالرجوع لنباتات الماضي يمكننا تقدير الشروط المناخية التي كانت سائدة في ذلك العصر، شريطة وجود مثيل لهذا التوزع حاليا يسمح بإنشاء علاقة بين المناخ ونوع النبات.
حدث تغير المشهد في أوروبا منذ 80000 سنة، وبلغ ذروة عصر الجليد قبل 20000 سنة.
    
       

صورة من مختبر علوم الإنسان بباريس-فرنسا

        وفي فرنسا قد تتشابه مشاهد الطبيعة مع تلك التي في لابونيا Laponie الحالية، مع طقس أكثر برودة وحرارة أقل 10 إلى 15 درجة مئوية بالنسبة لأيامنا هذه، وربما أبرد شتاء، مع مناخ أكثر جفافا.

كانت هذه المناخات القاسية مناسبة للحيوانات العاشبة مثل الرنة والماموث، وتؤمن باستمرار حياة يسيرة للصيادين وملتقطي الثمار في عصور ما قبل التاريخ ....

عزلت العصور الجليدية -هذه-أوروبا عن العالم وربما ساعدت في تطور إنسان (نياندرتال)، الذي كان مربوع القامة، ويشبه من حيث الشكل سكان الإسكيمو أكثر من غيرهم من الشعوب الحالية، وخاصة فيما يتعلق بالتناسب بين أطرافه وجذعه. وربما استطاع الإنسان القادم إلى أوروبا منذ أقل من مليون سنة، أن يتأقلم تدريجيا مع الشروط المناخية الباردة لعصور الجليد المتعاقبة والذي قادنا إلى إنسان نياندرتال الذي اكتشف في أوروبا منذ 130000 سنة، بشكل بدائي.

وقد انقرض منذ 30000 سنة، في أوج العصر الجليدي الأخير لأسباب مازالت مجهولة ولكن قد تكون مرتبطة بالمنافسة مع الإنسان "العاقل" ! في شروط مناخية شديد القسوة في ذروة العصر الجليدي.

وصل الإنسان الحديث إلى أوروبا متأخرا، واجتاحها من الشرق إلى الغرب منذ 45000 إلى 40000 سنة، في حين وجد الشرق الأوسط منذ 80000 إلى 100000 سنة. وفي الوقت ذاته شهد المناخ ارتفاعا مؤقتا في درجة الحرارة، صاحبه تجدد نشاط غبار الطلع للأشجار، مما يكون قد سهل قدون الإنسان الحديث من الشرق الأوسط. وتطورت معه النشاطات الفنية. فازدانت جدران العديد من الكهوف في فرنسا واسبانا بالحفر والنحت والرسم. لقد رسم على نحو خاص الحيوانات مثل الثيرا البرية والماموث والأحصنة وكذلك البطريق والسنوريات أو حديث القرن المكتشفة حديثا في كهوف كوسكيه وشوفيه Cosquer & Chauvet في جنوب فرنسا، إلا أنه لم يرسم الرنة إلا قليلا والتي مع ذلك كان يستهلكها بشكل كبير.

    

رسومات ملونة من مغارة شوفيه، الكائنة في فالون بوندارك في الأرديش، فرنسا، وتعود هذه الرسوم إلى 30000 سنة. (وزارة الثقافة والاتصالات الفرنسية)    

    يرجع هذا الثراء الفني "لحضارة الرنة" لأقل من 30000 سنة، كما يشهد على ذلك كهف شوفيه، والذي آل إلى الزوال مع نهاية العصر الجليدي.

وكذلك انقرضت في ذلك العصر كافة الثدييات الكبيرة مثل الماموث ووحيد القرن ذي الفروة والميغاسيروس mégacéros لأسباب مازالت مجهولة.

انخفض مستوى البحر في العصر الجليدي لــ120 متر تقريبا، فتغيرت بذلك حدود القارات ونشأت بينها ممرات. ومثال على ذلك كهف كوسكيه Cosquer، قرب مرسيليا، الذي كان مكشوفا مما أتاح دخول الإنسان إليه، كذلك كان مضيق بيرينغ على اليابسة مما كان يسمح للإنسان والحيوانات بالعبور بين آسيا وأمريكا.

كانت أميركا مسكونة منذ 15000 سنة، وربما كانت مسكونة قبل ذلك أي منذ 30000 إلى 40000 سنة تبعا للتأريخ الذي تم الحصول عليه في أمريكا الجنوبية، مما لا يدع مجالا للشك في وجود ممر عبر مضيق بيرينغ Béring، حيث إن انخفاض مستوى البحر 40 متر يكفي لنشوء جسر طبيعي بين القارتين.

مناخ جليدي غير مستقر

ومع ذلك لا يمكن تخيل مناخ جليدي متماثل خلال عشرات ىلأأف السنين، فالدراسات التي جرت ف يالعشر سنوات الأخيرة من خلال الحفريات في جليد غرونلاند، ومن خلال الرسوبيات البحرية ف يالمحيط الأطلسي الشمالي، تعطينا صورة عن مناخ جليدي شديد التغير في درجات الحرارة. وفي جوهر هذه التحاليل، نجد دائما الأكسجين 18 حيث تتغير نسبته في الجليد تبعا لدرجة الحرارة فكلما كان المناخ باردا أكثر، كلما تعرض بخار الماء الآت من المحيطات للتكثف أثناء انتقاله من المناطق المدارية نحو خطوط العرض الأعلى، فاقداً كل مرة النظائر الثقيلة.

وكل 7000 سنة إلى 10000 سنة يسجل جليد غرونلد تسخينا فجائيا يتراوح بين 7 إلى 10 درجات خلال عشرات السنين. وقبل ذلك عندما كانت تبلغ البرودة أوجها كانت رسوبيات الأطلسي الشمالي تشهد قدوم كثيف للجبال الجليدية من الكتل الثلجية من لورانتيد Laurentide. اكتشف هارتموت هاينريش Hqrtmut Heinrich عام 1988، هذه الأحداث، والتي تجسدت بتغير جذرى في تركيب الترسب الذي حلت فيه البقايا الصخرية محل الهياكل الكلسية للحيوانات المعلقة بالماء التي تتشكل منها الترسبات. أظهر جليد غرونلند بأن مثل هذا التسخين يحدث كل 1500 إلى 2000 سنة ولكن بشكل أخف. هذه الأحداث المسماة "دانسغارد أوشغر" Dansgaard-Oeschger على اسم العالمين الذين وضعاها، تبدو مرتبطة بتقصف الجبال الجليدية ولكن من ركام الجليد الإسكندنافي، ومازالت الآليات التي تولد هذا التعاقب في التغيرات السريعة في المناخ في الأطلسي الشمالي عصية على الفهم. وفي هذه الحالة لا يمكن اتهام تغيرات التشمس، ونواجه تفاعلية معقدة بين الطقس والمحيطات والركام الجليدي. ويبدو أن القدوم الكثيف لجبال الجليد يكبح، أو على الأقل يصعف، الجريان المحيطي. ويبدو الغولف ستريم Gulf stream. وإذا انطلق من جديد فإنه قد يجر معه فجأة نحو خطوط العرض الشمالية كمية هائلة من الحرارة المخزونة في المناطق المدارية.

ماذا كانت انعكاسات هذه الأحداث على المناخ في أوروبا وعلى حياة إنسان ما قبل التاريخ ؟

 دل غبار الطلع على تغيرات في المناخ، ولكن العلاقة مع أحداث هنريش ودانسغارد أوشغر مازالت بحاجة إلى إيضاح. ترجع مثلا رسوم كهف لاسكو Lascaux لــ 17000 سنة أثناء اعتدال المناخ. فهل نجم هذا الاعتدال عن هذه الأحادث المفاجئة في الأطلسي الشمالي، وهل كان لهذه الأحداث دور إيجابي في تطور الفن ؟ أسئلة كثيرة مازالت بحاجة لأجوبة.

الهولوسيني، عصرنا بين عهدين جليديين

منذ 15000 سنة بدأ انحسار الجليد وارتفاع مستوى البحار، ومنذ 10000 سنة بدأ عصرنا بين عهدين جليديين، والهوليسيني holocène، الذي اتسم بظروف مناخية أكثر استقرارا من المناخ الجليدي، مما ساعد في تطور الحضارات.

ومع ارتفاع درجة الحرارة، بدأت الغابات بالانتشار في أوروبا من جديد.

وفي هذا العصر تطورت الزراعة في الشرق الوسط. وفي ظل مناخ ملائم للحبوب، بدأ الإنسان بتدجين غذائه، فزرع الحبوب البرية. أما في أوروبا فقد تأخرت ثورة الحجري الجديد بالظهور، وانطلقت تدريجيا من الشرق بين سنة 8000 و6000 وحرصها البحث عن الغذاء الذي أصبح أكثر صعوبة للصيادين في بيئة من الغابات.

وكانت التغيرات المناخية كبيرة جدا في بداية العهد الهولوسيني في شمال إفريقيا. وشهدت الصحارى عصرا مطريا بين 6000 و8000 سنة. وفي قلب الصحراء الحالية كانت تجري الأنهار وكانت تعيش شعوب من الرحل. ويشهد على ذلك العديد من الرسومات على الصخور، والهياكل العظيم للفيلة والزرافات وحتى فرس النهر، وكذلك الرسوبيات المتموضعة في أعماق البحيرات التي جفت تماماً اليوم.

في قلب الصحراء نجد تلالا كلسية تشكلت في قاع البحيرات قبل 6 إلى 8000 سنة، حين كانت الصحراء تعيش مرحلة أكثر رطوبة


  كانت هذه الحقبة الرطبة نتيجة مباشرة لتغيرات التشمس الناجمة عن التبدلات البطيئة لحركة الأرض حول الشمس، كما برهنت عليها نماذج المناخات.

وهكذا، فإنه حسب مبادرة الاعتدالين الربعي والخريفي كل 20000 سنة تقريبا، تشتد الأمطار الموسمية في إفريقيا وكذلك في الهند. والواقع أنه بسبب ازدياد  الطاقة الشمسية، تؤدي الفصول الصيفية الأكثر حرارة إلى تسرب الهواء البحري إلى القارات، مما يتيح هطول الأمطار في المناطق القاحلة حالياً، مبرهنة إلى أي مدى يمكن للفلك أن يبدل من مناخنا. إلا أن الأمطار الشديدة توقفت فجأة منذ 4000 إلى 5000 سنة. مما تسبب في عودة الصحراء التي دفعت بالسكان نحو منطاق أكثر اعتدالا، كضفاف النيل.

الإنسان مؤثر جديد على المناخ

لئن كان للمناخات في الماضي دور في تطور الغنسان وفي طريقة عيشه، فقد بلغنا اليوم مرحلة جديدة. أصبح فيها الإنسان ذاته فاعلاً في تطور المناخ.

وبسبب التزايد السكاني والتطور الاقتصادي، غير الإنسان تركيب الجو عن طريق حقنه بكميات من الغازات ذات تأثير الاحتباس الحراري على مستوى الكرة الأٍضية بأكملها.

تعتبر هذه التغيرات أكبر وأقوى من التبدلات الطبيعية لهذه الغازات خلال الدورات الجليدية، إلا أنها تتميز اليوم بتواتر أسرع. والشاهد على ذلك فقاعات الهواء الموجود في جليد القطب الجنوبي. إذ كلما تراكم الثلج وتحول إلى جليد، احتبس فقاعات هواء مجهرية، يتيح لنا تحليلها إمكانية تحديد تركيب الهواء في العصور الغابرة. وبهذا الصدد وفي قلب القطب الجنوبي، أتاح التنقيب لمحطة فوستوك الكشف عن 400000 سنة من تاريخ التغيرات الطبيعية لغاز الكربون CO2والميتان CH4. وتدل هذه المحفوظات الجليدية على أن الغاز المسبب لتأثير الدفيئة والمناخ قد تغيرا خلال الدورات الجليدي وبين الجليدية. وليست التغيرات في الغاز ذي أثر الدفيئة سببا في العصور الجليدية بل نتيجة لها. إذ تزيد التبدلات التي يحدثها الفلك، ويعزز أثر الاحتباس الحراري في الحقبة الحارة ويخفف منها في الحقبة الباردة.

جليد مأخوذ من محطة فوستوك في القطب الجنوبي، وسمح بقياس التغيرات الطبيعية لغاز الكربون
المنحنى العلوي والميتان (المنحنى السفلي)، وهذه التحولات لتغيرات الحرارة المقدرة اعتبارا من نظائر الماء (المنحنى الأوسط). وأخيرا ونتيجة للتزايد السكاني والتطور الصناعي، ساهم الإنسان في تغيير تركيب محتى هذه الغازات كما يشهد بذلك المستوى الذي وصلت إليه حاليا (على اليسار)
(بيتي وآخرون Petit Nature, p. 399,429-436, 1999)



ونتيجة للتزايد السكاني والتطور الصناعي، ساهد الإنسان في تغيير تركيب الغلاف الجوي. وحقنه بكمية من غاز الكربون خلال 200 سنة تجاوزت ما أنتجته الطبيعة خلال عدة آلاف من السنين. وكان تأثيره على غاز الميتان أكبر. وتحدث هذه التغيرات في تركيب الهواء أثرا تسخينيا إضافيا، يؤدي وفقا للتنبؤات الحالية، لازدياد الحرارة. من المتوقع أن تزداد الحرارة 2 درجة مئوية عام 2100 على مستوى الكرة الأرضية برمتها. يمثل ذلك تغيرا كبيرا بالنسبة لتاريخ الأرض القديم، حيث تقدر أن انخفاض الحرارة على مستوى الكوكب ككل كان وسطيا خمس درجات في ذروة العصر الجليدي الأخير. 

والخلاصة أنه قد يكون لهذا التسخين نتائج كبيرة على حياتنا وسيتسبب بانقلابات كبيرة.

[مقال مترجم لـ سيلفي جوسوم Sylvie JOUSSAUME، مديرة الأبحاث في CNRS ، سيلفي جوسيوم هي عالمة مناخ ، متخصصة في دراسة آليات تغير المناخ في الماضي. طورت عملها البحثي في ​​معهد بيير سيمون لابلاس ، في مختبر علوم المناخ والبيئة-فرنسا.]

المراجع:

Article de vulgarisation:

 - BAR-YOSEF (O) et BERBARD (V.), "Les hommes modernes au Moyen-Orient", dossier sur les origines de l'humanité, Pour la science, Janvier 1999, p. 102-108.

- CLOTTES (J.), "Les grottes peintes de paléolithique", dossier sur les origines de l'humanité, Pour la science, Janvier 1999, p. 126-132.

- HUBJIN (J.-J.), "Climat de l'Europe et origine des Neandertaliens", dossier sur les origines de l'humanité, Pour la science, Janvier 1999, p. 110-118.

- JOUSSAUME (S.) et GOUIT (J.), "Reconstruire les chauds et froids de l'Europe", La Recherche, Juin 1999, p54-59.

- LABEYRIE (L.) et JOUZEL (J.), " Les soubresauts millénaires du climat". La Recherche, Juin 1999, p.60-61.

Ouvrage généraux:

- DUPLESSY (J.-C), Quand l'océan se fâche, histoire naturelle du climat, Odile Jacob, 1996.

- IMBRIE (J.) et IMBRIE (K.), Ice Age, Solving the Mysterv. Harvard University Press, 1979.

- JOUSSAUME (S.), Climat, d'hier à demain, CNRS Editions, nouvelle édition 2000.

- LABEYRIF (J.), L'Homme et le climat, Points Sciences, 1993.

- LEROI-GOURHAN (A.), Les chasseurs de la préhistoire, Métailié, 1992.

- Les Premiers Hommes, des origines à 10000 ans avant Jésus-Christ, Bordas, 1993.

- LORIUS (C.), Glaces de l'Antarctique, une mémoire, des passions, Odile Jacob, 1991.

- MAGNY (M.), Une histoire du climat Ed.Errance, 1995.

- The Cambridge Encyclopedia of Archeology, Cambridge University Press, 1980.


0 comments

إرسال تعليق