الأحد، 8 أغسطس 2021

من تجارب الأديب أحمد حسن الزيات في تدريس اللغة العربية


 

أحمد حسن الزيات...المصدر: وكيبيديا

كتب الأديب والكاتب المصري الكبير المعروف أحمد حسن الزيات صاحب مجلة "الرسالة"  المشهورة مقالا نفيسا يتحدث فيه عن تجربته في تدريس اللغة العربية والصعوبات التي كانت تعيقه وتعيق تلامذته في التحصيل. وهذا المقال مهم يساعد الأساتذة والمعلمين في تطوير طرق تدريسهم، خاصة وأن العصر الحديث ظهرت مناهج لا تحصى وطرق لا يمكن عدها في تنويع طرق التدريس والتحصيل لمختلف أنواع المعرفة. 

فإليكم ما كتبه الأديب المصري متحدثا عن تجربته في تدريس العربية:


"في كل مدرسة وفي كل سنة وفي كل فصل يكاد هذا الحوار يتردد بمعناه بيني وبين التلاميذ الجُدد:

- أخرجوا كتاب المطالعة.

- أوه ! لقد قرأناه ثم قرأناه حتى مللناه ! ألا يوجد كتاب غيره ؟

- هذا هو الكتاب المقرر؛ وسنقرأه مرة أخرى على نمط آخر.

فيفتحونه متثاقلين ويقرأون متكاسلين ولكما تكررت: وكيف كان ذلك ؟ 

زعموا . . . جرت على شفاههم بسمة خبيثة !

- اليوم يوم القواعد !

- صداع الرأس وغثيان النفس وكظة الحافظة بما لا خير فيه ولا عود منه !!

- هل في العالم لسان صحيح ممن غير نحو، وكتابة فنية من غير قواعد ؟!

- للغات الأخرى نحو بسيط معقول ليس فيه ما في نحو العربية من وجوه وشروط وأوزان وأبواب واعراب وإعلال وإبدال مما يجعله أقرب إلى الرياضة منه إلى الأدب !!

- ستعلمون أن هذا النحو أيسر مما تظنون !

ثم أسير في الدرس وهم مستسلمون مستيئسون كأنما يسمعون شراً لابد منه.

***

- درس اليوم قطعة من المحفوظات !

- لنستعد أولا للتحريري، فإذا أجزناه استعددنا للشفهي !!

- ليس الغرض من المحفوظات أن تكون للإمتحان الشفهي، وإنما الغرض منها تجويد الإلقاء، وتربية الملكة، والوقوف على معاني المفردات وخواص التراكيب.

****

- اُكتبوا في هذا الموضوع.

- الله !! موضوع جميل "واسع" !

- اذن لماذا لم تبدأوا الكتاب ؟

- ننتظر أن تتكلم لنا فيه فتملي علينا مقدمته وتنهج طريقه وتبين غرضه وتقسم أجزاءه.

-وماذا بقي لكم أنتم اذن ؟!

- حسبنا أن نكتب ما نسمع بعد أن نمطه بالمترادفات والمبالغات، ونحشوه بالأحاديث والآيات !

- ولكني أفهم هذا وأنتم صغار ناشئون، فما عذركم اليوم وأنتم شباب، لكم فكر ورأي، وعندكم علم ومحصول ؟

- هكذا عودنا معلمونا

- تعودوا من الآن غير هذا ! ففكروا بعقولكم، وعبروا بألفاظكم، فالذهن يقوى بالمعالجة ويخصب بالمران.

فيحاولون أن يكتبوا، ولكنهم يقضون الساعة في عصر الذهن، وصك الجبين وشد الشعر، وعض القلم، حتى يدق الجرس، ومكا كتبوا غير سطر أو سطرين !!

***

من هذا الحوار المتجدد فهمت شكاة التلاميذ، وعلمت أسباب انصرافهم عن اللغة واستصعابهم لها واستخفافهم بها وزهادتهم في أدبها. فأنا أعالج من أتولى تعليمه منهم بتصحيح فهمه وتبديد وهمه وتجديد عزمه، فلا يلبثون غير قليل حتى يشاركوني في الدرس، ويناقشوني في الرأي، ويسابقوني الى الاستنتاج، ويشيع في جو الفصل النشاط والشوق والرغبة والأمل.

أسباب آلامهم وعلاجي.

لو قصرنا  الكلام على تحليل هذا الحوار لخرجنا منه بعلل هذا الشعور وأسباب ذلك النفور وحصرنا ذلك فيما يأتي:

1- الاقتصار على كتاب واحد للمطالعة: يقرر لكل فرقة ويكرر في كل عام، وثقل ذلك على النفس ثقل الحديث المعاد والنغم المردد مهما كان فيهما من نفع ولذة، بله ما يدل عليه ذلك من فقر الأدب العربي في الكتب، وضعف العقل المصري في الانتاج. والنفس البشرية نزاع إلى التنوع طلاعة إلى الجديد. فكنت أدفع السأم عن نفوس الطلاب بإثارة الاهتماما ومحاولة التحديد بدراسة لغوية للألفاظ فلسفية المعاني، نفسية للأشخاص، فأطالبهم باستعمال اللفظ ومرادفه وضده، وأناقشهم في مدلوله فيؤيدونه أو يفندونه، وأباحثهم في أخلاق الأشخاص والدور الذي يمثلونه. ثم أختار لهم الحين بعد الحين روائع الفصول من الكتب والصحف والمجلات فأقرئهم إياها أو أدلهم على كتاب حديث وأكلفهم أن يقرأوه ويلخصوه ويسمعوني إياه على أن رجال المعارف قد فطنوا إلى هذا الخلل فحاولوا سده، فهم يخصصون لكل سنة من سني الدراسة كتابا، ويطلبون إلى الأدباء أن يتسابقوا في وضع هذه الكتب. فعسى أن يوفقوا إلى الصواب في هذا العمل ، وأن يدنيهم كفاة الكتاب من هذا الأمل !

2- جفاف القواعد وعقمها بفصلها عن الأدب

من الحق أنك لا تجد أجف من القواعد العربية، فوجوهها عديدة، ومناحيها بعيدة، ومسائلها معقدة، ومسالكها ملتوية، لا تساعد لى وحدة النطق ولا تعين على صحة الأسلوب، ولا تزال عليها مسحة من الخشونة والقدم، لأنها في الأصل وضعت للقرآن الكريم واعتمدت على لحون العرب ووقفت عند ذلك فلم تساير اللغة في تطورها وتقدمها، وبقيت تروع التلاميذ بما لا رجع ولا طائل وراءه من أوزان مهجورة ولهجات مقبورة وتعليلات باردة وتقديرات فاسدة واختلافات عقيمة، وتوارفر على هذه القواعد الواهنة جماعة من الملعمين ضعفت سلائقهم في الأدب فجعلوها بضاعتهم، وحذفوها على أنها علم قائم بنفسه، وغاية مقصودة لذاتها، وحشوا بها أذهان الطلبة على قدم أمثالها وعدم التمرين على استعمالها. وجردوها تجريد العظام المبتورة ووضعوها في أشكال الجداول الرياضية والأشجار الصناعية، وأكرهوا النفوس الشابة على استظهارها دون علم بحقيقتها ولا اقتناع بضرورتها، فلم يكن بد من وهلهم بها واستثقالهم لها. فكان سبيلي أن أهون هذا الأمر عليهم وأقربه إليهم بحذف الفضول، والاقتصار على المشهور وتنبيههم إلى أن أوجه الأعراب المختلفة وصور الاعلال المتعددة إنما هي بقايا أثرية من لهجات القبائل ندرسها على أنها من تاريخ اللغة وفقهها، لا على أنها من نحوها وصرفها، ثم أمهد للقاعدة بالمثل، وأٌرن العلم بالعمل، وأقفهم على معاني الأدوات وفروقها وأجه استعمالها في بدائع المأثور من النظم والنثر، وأدلهم على المهمل والمستعمل من الحروف والتراكيب، وألقي في روعهم أني أدرس لهم فن الكتابة وقواعد الكلام، وما حصة الإنشاء التحريري أو الشفهي إلا صلة لهذا الدرس وتطبيق عليه. وهكذا يشعر التلاميذ أنهم يدرسون شيئا له قيمة وفيه لذة، لأني عالجت جفاف القواعد بمزيج الأدب، ودوايت عقمها بتبيين الغرض.

3- سوء تعليم اللغة ورداءة الكتب:

فضلا عن جفاف القواعد بفصلها عن الأدب، فإن أكثر المعلمين يلقنون الطلبة مصطلحاتها كما يلقن طالب الطب مصطلحات الأقر باذين ! فهم يحفظون: نون الوقاية، وميم العماد، ولام الجحود، ولو حرف امتناع لامتناعن ولولا حرف امتناع لوجود، وإنما كافة ومكفوفة، والواو بحسب ما قبلها، ومنع من ظهورها التعذر، ومنع من ظهورها الثقل، الخ .... بدون علم بمعناها ولا فهم لأصلها !! فهل يلام الطالب إذا تهانف بهذه الأسماء، وأنكر علاقتها بالأدب والإنشاء، واعتقد أن تحصيلها سعي باطل، وعبث لاغناء فيه ؟

أما تعليم الإنشاء فموضوع يقترح، ومعلم يخطب، وأيد تختزل، وكراسة تقدم ودرجة توضع، وهي الغرض الأسمى لهذه العملية !!! ولكني أكل التلميذ إلى نفسه بعد أن أكون قد ناقشته في الموضوع المقترح في حصة المطالعة أو المحفوظات أو الإنشاء الشفهي، فيجد صعوبة في أول الأمر ثم لا يلبث أن تتفتق قريحته فتستجيب له المعاني وتسلس لقلمه الألفاظ.

وكتاب "قواعد اللغة" (وما أدراك ما هو !!) هو عذر الطلبة القائم وعناؤهم الدائم وشقاؤهم المكتوب !! والحمد لله قد قضت عليه وزارة المعارف هذا العام فكفتنا إفاضة القول فيه، وعسى أن يكون الكتاب الذي يخلفه مضروبا على قالب (النحو الواضح) الذي وضعه الأستاذ الجارم، وصاحبه. فإنه المثل الذي نطلب والنمط الذي نود.

4- جهل التلميذ بالغرض مما يدرس:

كل عمل لا يتضح غرضه ولا تحدد غايته عناء باطل وفشل محقق. والتلميذ لدراسته علوم الأدب مفككة من غير رابط مبددة من غير ناظم، لا يعرف علائقها ولا حقائقها ولا أغراضها. فهو يدرس النحو والبلاغة لأنهما مادة الامتحان التحريري، ويطالع الكتاب ويحفظ المحفوظات لأنهما مادة الإمتحان الشفوي، حتى إذا جازهما تخلصت حافظته منها تخلص المعدة من الطعام الوبئ.

فواجب المعلم إذن أن يبين للتلاميذ الصلة الوثيقة بين الدروس، ويقر في نفوسهم أنها تتساوق كلها إلى غرض واحد هو تقويم اللسان وترويض القلم.

5- ندرة الكتب التي احبب القراءة إلى التلميذ.

بينما الأدب الغربي كالروضة الأريضة أُكُلُها، دائم وظلها فينان وثمرها زهيُّ الألوان شهي الطعوم يُمتع العقول والقلوب كل يوم بالجمال والخير والحق في القصص والروايات والتراجم والنقد والشعر، تجد الأدب العربي أشبه بغابة من الصفصاف: خضرة في العين ولا ثمر في اليدين ! ولشد ما يحار المعلم كلما سأله تلميذ عن أي الكتب يقرأ !!

فهي بين قديم سيء التأليف مضطرب النظام ردئ الطبع، وبين حديث سقيم العبارة أو ضعيف الفكرة، اللهم إلا طائفة قليلة من الكتب الموضوعة والمنقولة لا تسد حاجة ولا تنقع غلة. فماذا نبرر للطلاب قولنا أن كتابا من خير الكتاب، وأن أدبنا من أغنى الآداب، ونحن لا نجد لهم منذ ثلاثين عاما أو تزيد إلا كتابي كليلة ودمنة المنقول وأدب الدنيا والدين الموضوع ؟! ولمذا لا نختصر لهم طائفة من الكتب القيمة والدواوين الممتعة كنهج البلاغة والعقد الفريد وزهر الآداب ومقدمة ابن خلدون ودوواين أبي تمام والبحتري والمتنبي وأبي العلاء ومهيار والشريف، فنختار منها نخبة صالحة تطبع طبعة مدرسية ثم توزع على الطلبة كما توزع الشوقيات، ويطالبون بدراسة كتاب منها كل عام! ولو امتحنوا فيه لكان ذلك أجدى وأعود !

ذلك أو شبهه حري بأن يدني الأدب من متناول النشء، فيتذوقون جناه، ويتنسمون شذاه، وتنطبع أذواقهم على مناهجه وأساليبه، فيدرسونه ويتمثلونه ويحبونه ويحيونه ويتوسلون إليه بوسائله، ويسيغون مراراة قواعده ومسائلة.

6- قرب الغاية الصغرى للنجاح في الإمتحان:

وذلك علاج لا نقول به إلا مكرهين، فإن مبادئ التعليم الحديث لا تنظر بعين الرضا إلى تعصيب الامتحان، ولكن عملية البتر علاج، وعقوبة السجن علاج، وماذا نعمل والتلاميذ يعتقدون أن قليلا من القواعد على كثير من الإنسائ يبلغ بهم الدرجة العشرين وهي باب النجاح ؟؟

ألا ترونهم يزعمون أن الرسوب في اللغة العربية دون القليل ويدللون على زعمهم بأن فلانا نجح وهو لا يميز الفعل من الاسم لكثرة ما قرأ من صحف، وطالع من رويات، وكتب من رسائل، وشاهد من تمثيل، فهو ضليع في الكتابة من دون إعراب، وعالم باللغة وإن لم يطلع من قواعدها على كتاب ! لذلك يهمل الطالب القواعد عن عمد، وينتف جملا من الكتب وفقرا من الصحف، و(يصم) نماذج الإنشاء ويؤلف من مجموعها يوم الامتحان موضوعا ممشيأ الخلق مشوه الصورة غريب المزاج، ويضع إلى جانبه جزءا من جواب وشيئا من إعراب وقليلا من أدب، ويساعده الله فيجبر له كسرا أو يزداد له صحيح فينجح !

فإذا رقعت درجة النجاح إلى ستين في المائة. وفرض لكل من القواعد ولاإنشائ (درجة صغرى) متساوية، أقبل التلاميذ على دراسة اللغة جادين صادقين فاستفرغوا الوسع في طلبها، واستسهلوا الصعب في التماس أدبها، ونظروا إليها نظرهم إلى الشيء الخطير لا يبتغى بمثل هذا الهــذر.

ذلك جل ما أعمل وأقل ما أرجو. فأما عملي فقد جنيت ثمره وحمدت أثره، وأما أملي فنُطْتُهُ بأولي الأمر في التعليم، وفي ظني أن سيحققونه، فإن النهضة التي انبعثت اليوم في وزارة المعارف فقلبت المناهج، وغيرت الكتب، وأصلحت النظم، وأتت بنيان "دلنوب" من أساسه، خليقه بأن تكون فاتحة عصر أدبي جديد طالما شاهت إليه النفوس ورصدت له بروق الأمل." اهـ

------------------ المصادر ----------------------

ترجمة الكتاب أحمد حسن الزيات:

https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A3%D8%AD%D9%85%D8%AF_%D8%AD%D8%B3%D9%86_%D8%A7%D9%84%D8%B2%D9%8A%D8%A7%D8%AA

- مجلة "التربية الحديثة"، السنة الثانية، فبراير 1929، العدد: 3، مقال: "تجاربي في تدريس اللغة العربية" أحمد حسن الزيات؛  ص(233-239)


0 comments

إرسال تعليق